الأحد، 19 فبراير 2023

هولمز تحت العدسة



 عندما نسمع اسم شيرلوك هولمز، يتبادر إلى أذهاننا صورة ثابتة المواصفات لشخص يرتدي ذلك المعطف الطويل الفضفاض وتلك القبعة الغريبة، يُدخّن بالغليون الخشبي ، و يُمسك بالعدسة المكبرة، وكل ما يتفوّه به من كلمات يُمكن اختصاره بكلمتين ؛ هما المنطق والتحقيق.

هذه الصورة العامة التي طُبعت في خيال الناس عند سماعهم بالاسم فقط، لكن أولئك الذين يقرؤون روايات شيرلوك هولمز للسير آرثر كونان دويل هم فقط من يعرفون أنه لا يمكن تقييد هذه الشخصية الشعبية و تحديدها فقط بهذه الصفات السطحية، لأنه أعظم من ذلك بكثير. شيرلوك هولمز هو شخصية إستثنائية عن جميع الشخصيات المبتكرة في القصص الخيالية، و إن لم يصفه الكاتب بصفات واضحة إلا أن القارئ سيعرفها من خلال القصص والروايات، التي كان هولمز بطلها ومحورها. 

نقول :"ذلك الشخص ذكي" إذاً أصبح الذكاء صفة من صفاته و نقول :"ذلك الشخص مجتهد في عمله" إذاً أصبح الاجتهاد من صفاته أيضاً، من هنا يمكننا أن نضم أسلوب التفكير والعقلية إلى الصفات التي يتصف بها الشخص.

فيما يتعلق بالمظهر العام لشيرلوك هولمز ؛ فقد قيل عنه أنه يشبه القطط العملاقة، كالنمر الأسود مثلاً .. هو أطول من ستة أقدام (١٨٣ سم تقريباً) وهو نحيف، مشيته سهلة وحيوية، إلا أنه يتمتع بجسد رياضي وقوة بدنية، كما أنه يتحرك بسرعة وبدون ضوضاء، كالصياد في أثر فريسته، وما جعل الأمر ممتعاً أكثر هو تطويره لحاسة الشم لديه، فهي قوية بشكل لا يصدق و يستطيع تمييز الروائح بسهولة. شعره أسود اللون كالغراب (ولكن في بعض الإصدارات الحديثة من البرامج يتغير اللون).

كما يهتم الشخص الحقيقي بمظهره كذلك يهتم هولمز بمظهره وهو أمر مهم بالنسبة إليه، هو دائماً يرتدي ملابس أنيقة ولم يسبق أن ذكر عنه أنه ارتدى ملابس رثة وقديمة إلا في التنكر وهي حالة خاصة وجزء لا يتجزأ من عمله، و في اقتباس من رواية كلب آل باسكرفيل :"في بدلته المصنوعة من التويد و قبعته القماشية، بدا مثل أي سائح آخر" ومع المظهر الأنيق لهولمز توجد دائماً ذقن ناعمة مع مظهر مثالي كما لو كان في شارع بيكر.

عيونه الرمادية الحادة، أنفه الحاد الدقيق، و ذقنه الزاوي، ذلك يعطي وجهه تعبيراً حازماً و شاحباً أحياناً، جبينه العريض وحاجباه الكثيفان الداكنان، وشفتيه الدقيقتين، كلامه السريع وصوته المرتفع الصاخب، كل هذه صفات تميز بها شيرلوك واعتمد عليها جميع الرسامين في تصورهم لشكل ومظهر شيرلوك هولمز الخارجي. 

عادة ما يرتدي المحقق العظيم بدلة التويد أو معطفاً، لكن ذلك يختلف باختلاف الأماكن التي يتواجد فيها هذا المحقق العظيم، ففي المنزل يرتدي ثوباً فضفاضاً مريحاً. و أثناء التحقيق يكون لباسه مكوناً من معطف طويل رمادي اللون، و قبعة رمادية عملية تشبه قبعة صياد الغزلان (اختلف لونها في الاصدارات الحديثة والأفلام ). وفي المدينة يرتدي شيرلوك لباساً وقبعة أنيقة ولديه دائماً غليونه وعدسته المكبرة، وأحياناً ما يكون في جيوبه طباشير وشريط قياس، وفي حال لم يجد مكاناً لتدوين ملاحظاته فإنه يستخدم سوار القميص.

من أجل أن نفهم طبيعة هولمز تماماً، علينا أن نعرف أن هناك ما يسمى -في الوقت الحالي- مرض عقلي ؛ كأن يكون الشخص مدمناً على العمل ، و مدمنو العمل مدمنون على وظائفهم تماماً، صباحاً، مساءً وليلاً وفي كل الأوقات، كل ما يهمهم هو العمل وإتمامه بشكل مثالي. ولكن في حالة هولمز فإنه يريد أن يعمل عقله بصورة لا نهائية وبشكل مثالي أيضاً، وهذا ما يحاول أن يفعله دوماً. ليس في العمل فقط وإنما في جميع أمور حياته.

إن النجاح الناتج والمكتسب من الوظيفة يقلل أهمية العلاقات الإجتماعية والحياة الخاصة، لأنه في هذه الحالة يصبح العمل والتفكير هو المعنى الوحيد للحياة. 

نحن نقضي معظم وقتنا نعمل وفق نظام تفكير واتسون، بقدرات عقلية بالمستوى الطبيعي. لكن، كما تقول كونيكوفا في كتابها العقل المدبر؛ "من المستحيل تدريب أنفسنا على العمل بنظام هولمز -ولو عوّدنا أنفسنا- فإنه سيصبح في النهاية طبيعتنا الثانية. لن يكون الأمر سهلاً في الغالب. ولكن -في الغالب أيضاً كما تقول هي-، يمكن لبنية دماغنا ذاتها أن تتغير وتتطور حتى في عمر متأخر.

عرف عن هولمز وكان واضحاً في الروايات أنه نادراً ما كان يأكل أو ينام إذا كان عقله مشغولاً بالتحقيق في قضية ما، فهو يميل إلى العمل أياماً أو حتى أسبوعاً كاملاً بدون طعام أو راحة.  في قصة حجر مزارين (جوهرة التاج -في نسخة دار الأجيال) ، يسأل الدكتور واتسون: لماذا لا تأكل؟ فأجابه هولمز بأسلوبه المثير للإهتمام : "لأن الملكات العقلية تُصقل عندما يجوع البدن، حقاً يا عزيزي واتسون من المؤكد أنك ستعترف (وأنت الطبيب) بأن الطاقة التي يكتسبها الدم من هضم الطعام يذهب معظمها إلى الدماغ ، وأنا دماغ يا واتسون، ما تبقى مني مجرد زوائد ملحقة بالدماغ، و لهذا فإن عقلي هو ما يجب أن أهتم فيه".

"لا تنمو القضايا على الشجر" ؛ لا يصادف في كل يوم أن توجد قضية تشغل هولمز، وفي حال لم يكن هناك قضية جديدة فإنه يخرج من منزله في شارع بيكر ومن النادر أن يعرف أحد وجهته، هذا هو سبب الشحوب الشديد في وجهه، وهذا أيضاً ما زاد الأمر صعوبة على الممثلين ممن قاموا بتمثيل دور هولمز في الأفلام والمسلسلات التلفزيونية وأشهرها المسلسل الشهير من بطولة جيريمي بريت في سلسلة الغرانادا، حيث تطلب منه جهداً في إبداء الشحوب والنظرة الثاقبة. مع ذلك، فإنه يكون نشيطاً جداً و سريع الحركة عندما يمارس عمله ويكون سعيداً جداً عندما تقع قضية بين يديه بالمصادفة. يركز بقوة ويضع الفرضيات والنظريات ويبحث عن الأدلة و يفحص الآثار وما إلى ذلك، هكذا يشعر أنه متوازن عقلياً. وعلى طريق حلمه في أن يكون المحقق المثالي الأشهر، فقد قام بالتحقيق بدقة في رماد السجائر وأتقن تقنيات تتبع آثار الأقدام وتحديد بصمات الأصابع، وتمييز إطارات العربات و تحليل خط اليد وغيرها، لذلك أصبح خبيراً في هذه المجالات لأنه يهتم بكل طريقة بالإمكان أن تساعده في حل القضية وتحديد الهوية. 

أحد أوجه عمله المثالية هي معرفته التامة بالمكان ، فهو يعرف لندن تماماً كما يعرف باطن كف يده وهو سيد التنكر ولديه سجلات موثقة بجرائم ومجرمي الماضي، سواء كانت قضية عمل عليها مسبقاً أو قرأ عنها في الصحف وهو لا يهمل أي معلومة حتى لو كانت صغيرة. كما قال "بالنسبة لعقل كبير، لا شيء صغير".

الخطر جزء من عمله، لذلك درب نفسه ليكون ملاكماً ممتازاً و عداءً سريعاً، وإلى جانب ذلك فهو يتقن الباريتسو (وهو فن ياباني للدفاع عن النفس) وفي الحالات الضرورية -وهو قادر على تمييزها- فهو يعرف كيفية استخدام المسدس كما ورد عنه في رواية علامة الأربعة.



مما سبق يمكن أن نفكر أن هولمز يعيش من أجل وظيفته فقط لدرجة أنه بالكاد لديه أي معارف أو أصدقاء. وأحياناً يترك المكان دون أن يقول وداعاً عندما يكتشف شيئاً مهماً، لأنه بالفعل رسم الخطوة التالية في ذهنه، و وجب عليه التنفيذ فوراً. 

لديه صديق واحد فقط -في الوقت الحالي- هو الدكتور واتسون، ولكن حتى هذا الأخير قد يطلب منه هولمز أن يتركه بمفرده عندما يريد التفكير بعمق. 

ذكرنا في سطر سابق أن هولمز يحفظ لندن تماماً، وهو يعرف فتياناً صغاراً تمت تسميتهم لاحقاً بفتيان شارع بيكر ، هؤلاء الفتية ينتشرون في شوارع لندن ويجمعون ما يحتاجه هولمز من معلومات، ويحصلون بالمقابل على بعض المدفوعات لقاء خدماتهم. 

عرف عنه أحياناً صفات غريبة، كأن يقال عنه بأن أسلوبه نزق وفوضوي وذلك هو سبب خلافه مع السيدة صاحبة العقار، السيدة هدسون. مع ذلك فإن هذه الفوضى التي يخلفها هولمز في مكانه لا تزعجه البتة، فالشيء الوحيد المهم بالنسبة إليه هو أن يجد ما يبحث عنه، ولديه أمور أكثر أهمية ليفعلها كما يقول، و ربما من خلال الفوضى يمكنه عمل خارطة ذهنية ويكون كل شيء مرتب داخل رأسه، وبلا شك فإن صديقه الذي لا يقدر بثمن، الدكتور واتسون، موجود دائماً لتقديم يد المساعدة.


يعيش شيرلوك هولمز حياة منعزلة، لكن شقيقه الأكبر مايكروفت يعيش في عزلة أكثر منه، ويعيش من أجل وظيفته تمامًا مثل أخيه. وهذه هي السمة المشتركة بينهما ؛ ناجحان في مهنتيهما، أو ما أوجدوه لأنفسهم. وكما يقول هولمز دائماً "عملي هو أن أعرف ما لا يعرفه الآخرون" و هذا هو ما أوجده وأنشأه لنفسه وهي وظيفته ومبدأ حياته. 

حقيقة لا مفر منها أن السير كونان دويل ابتكر هولمز، ولكنه ابتكر معه عالماً كاملاً وأشخاصاً وزماناً ومكاناً، وأيضاً ابتكر وظيفة جديدة ؛ "المحقق الاستشاري"، وهي وظيفة تختلف عن وظيفة المحقق. على الرغم من أن الكثير من الناس يحبون المحقق البريطاني لكونه عبقريًا، إلا أنه كان شيئًا رائعًا أن تم إبتكار مهنة المحقق الاستشاري، فهولمز يحبها ويمكنه نشر مهاراته الخاصة فيها التي كان من الممكن أن يتم تقييد هذه المهارات لو كان يعمل مع الشرطة بشكل نظامي، ولديه دخل كبير من هذه المهنة.

وفي اقتباس من رواية علامة الأربعة عن هولمز وهو يقول للدكتور واتسون: "أنا المخبر الاستشاري الوحيد والملاذ الأخير، فحين يعجز ليستراد أو غريغسون عن حل مشكلة ما فإنهم يأتون بها إليّ، فأدرسها ثم أرشدهم إلى حلها، بدون مقابل ودون أن أطالب بأي فضل أو ذكر، لأن مكافأتي الحقيقية هي في العمل نفسه وفي لذة إستغلال قدراتي العقلية".

على الرغم من أن هولمز شخصية خيالية، لم يكن هناك محقق حقيقي قبله استخدم علوم الطب الشرعي والعلوم الجنائية والتخصصات الأخرى لحل الجرائم. وبكل تواضع يمكن وصف هولمز بأنه مركز شرطة مكون من رجل واحد فقط ، يقوم بعدة مهمات بمفرده كانت لتقوم بها مجموعات كاملة من عناصر الشرطة.

شخصية شيرلوك هولمز معقدة بما لا يكفي لفهمها واستيعابها ولكنها ذكية بما يكفي لتكون مصدر إلهام كبير لجميع قراء الروايات أو حتى لعلم الجريمة. هذا هو هولمز ؛ الشخصية الخيالية المبتكرة ، التي تكاد أن تكون حقيقية، بصفاته المميزة و وصف بسيط عن عقليته وطريقة تفكيره المعقدة والذكية. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق